ما زال مشدود مدرسةً… حين تُقعد الأجساد وتنهض الأرواح!

(عدن توداي)
بقلم: عبد العزيز الحمزة
ما تزال الأرواح العظيمة تعلّمنا أن الدعوة ليست مهنة، ولا العلم مجرد مرحلة، ولا القراءة هواية، بل هي حياة تنبض في العروق، وإن توقف الجسد. هذا ما تجلّى حين شددتُ الرحال لزيارة شيخي وأستاذي المربي الفاضل عبد الله بن علي مشدود، الذي أثقل المرض جسده وأقعده على كرسي متحرك، لكنه ظلّ مدرسةً قائمة، بل منارةً مشتعلة في زمنٍ تخبو فيه السُرُج وتنطفئ فيها المصابيح.
دخلت عليه يوم عيد الأضحى، ذلك العيد الذي ازدان في مديرية مودية هذا العام ببركة وجوده، وتوشّح الفرح بضياء حضوره. كان جالساً في غرفته تلك، الغرفة التي عرفنا فيها معنى طلب العلم وذوقنا فيها حلاوة الجلوس إلى العلماء. غرفة تفيض من جدرانها برائحة الكتب، وتزدحم رفوفها بمصاحف ومجلدات، وكأنها تعانق بعضها بعضاً في خشوع وسكون.
ناولني كتابًا بيده المرتجفة، بصوت مبحوح بالكاد يُفهم، لكن الرسالة كانت أبلغ من كل بيان: “اقرأ”. وكان الكتاب هو “ماذا يعني انتمائي للإسلام؟”، وما أدراك ما هذا الكتاب! كتابٌ علّمني فيه شيخنا كيف تكون الكلمة إيمانًا، والحرف سلاحًا، والفكرة حياةً.
يا الله! أيّ روح هذه التي ما زالت تشتهي العلم كما يشتهيه الفتى في ريعان شبابه؟! كيف لهذا الجسد المنهك أن يحمل همّ الأمة وهمّ الدعوة وهمّ التغيير؟! رأيته يتحدث بصعوبة، لكنّ لسانه ما زال يلهج بالحمد، وعينه تبرق بالحياة، وقلبه يهتف: “اطلبوا العلم، وادعوا إلى الله، وكونوا صفًا واحدًا!”
تحدّث إليّ ابنه الشيخ محمد، وقال: “أبي رغم حالته الصحية، ما زال يضع لنفسه برنامجاً يوميًا للقراءة، ويخصص ساعات لمتابعة البرامج العلمية على شاشة في غرفته”. كم شعرت بالخجل من نفسي، وكم شعرت بالصغر أمام هامةٍ تطاول الجبال! هو لا يستطيع تحريك جسده، لكنه ما زال يُحرّك القلوب، ويبعث فينا الحياة، بل يُربّي الأجيال وهو على سريره!
يا من تتلمذتم على يديه، يا من جلستم في حلقاته، يا من سمعتم نداءه وخبرتم توجيهه، هلمّوا نُجدّد العهد! فإن كان الشيخ مشدود قد أقعده المرض، فإن همّته ما زالت واقفة. وإن لم تعد قدماه تحملانه إلى المساجد، فإن دعوته ما زالت تطرق أبواب القلوب وتُحيي الأرواح.
ما زال مشدود مدرسةً…
مدرسةً في الثبات على المبادئ، في حب القراءة، في التفرغ للدعوة، في بناء النفس، في صناعة الوعي، في زرع الحب والتآلف، في ربط الناس بالله لا بالأشخاص. ما زال مشدود مدرسةً تنسج من آلام المرض دروس الأمل، وتُحوّل ضعف الجسد إلى عزيمة لا تُقهر.
فيا طلابه ومحبيه، لا تخذلوه، لا تتركوا رسالته معلقة بين الرفوف، ولا تسمحوا لأيامكم أن تمرّ دون أن تسألوا أنفسكم: هل كنا على قدر حلم شيخنا؟ هل حملنا ما غرسه فينا من هدي وفكر ونور؟
يا شيخنا الحبيب، شفاك الله وعافاك، وطوّل الله في عمرك بالصحة والعافية. ما زلتَ في وجداننا منارة تهدي، وصوتًا يوجّه، ومِشكاةً تنير، ودعاءً لا ينقطع. فبوركت روحك، وعلت همتك، ودامت مدرستك – بإذن الله – شامخة في قلوبنا وعقولنا.
ما زال مشدود مدرسة… مدرسة تعلّم كيف يُصنع الرجال!