دمعة ساخنة(قصة قصيرة)
عدن توداي
د. علي الزبير
في طريقه إلى منزله، بعد غياب عدة أشهر في عمل خارج المدينة، استمع إلى حكايات متفرقة عن شدة الحرّ في مدينته، وأن هناك من مات تحت سياط أشعة الشمس.. انتابه القلق على زوجته وأطفاله ولكنه تذكر أنهم في القرية.. وصل إلى منزله ليلاً، فنام على سطحه.. وفي الصباح تذكر حكايات ضحايا الحر، فقرر أن يمكث في المنزل.. في الغرفة كانت مفاتيح الكهرباء جميعها في وضع (on).. نظر إلى جهاز التكييف على جدار الغرفة، فوجده قد صار مسكننا للعناكب.. حوَّل نظره إلى السقف، فرأى ثلاث رياش ساكنة.. وديعة.. متيبسة.. ابتسم للوصف الأخير.. وكأن هذه الرياش حين تؤدي وظيفتها التي حددها صانعها، تكون خضراء أو لينة طرية.. بدأ يشعر بالاختناق من شدة (الكاوي).. التفت إلى النوافذ فتذكر أنه قد فتحها عند دخوله إلى الغرفة.. نفخ بشيء من التذمر في اللحظة نفسها التي ارتفعت يده إلى جبهته لتمسح قطرات من العرق قبل أن تتسلل إلى عينيه فتضيف له حُرقةً جديدة.. وفجأة تذكر ما جعله يبتسم بانتصار.. وفي خطوات جذلى بلغ الزقاق الذي تربض فيه المروحة الأرضية التي تعمل بألواح الطاقة الشمسية.. نفض عنها الغبار.. بحث عن السلك الموصول إلى البطارية.. كان طوله كافياً ليصل الى وسط الغرفة.. أوصله بالمروحة.. ضغط زر السرعة الأعلى.. تحركت رياشها الصغيرة، فتحرك في نفسه أمل العودة إلى الحياة الإنسانية بعد أن خالجه شعور بأنه قد رُمي بعنف إلى خارج دائرتها.. تناول أقرب فراش اسفنجي وأقرب وسادة، وألقاهما أمام مروحته الأثيرة.. وبعد ثوان معدودة كان مستلقيًا عليهما بعينين مغلقتين، وفم مفتوح بابتسامة تشبه ابتسامة مستكشفٍ عثر على الجزيرة الأسطورية التي ظل سنوات يجوب البحار والمحيطات بحثاً عنها.. ولكن هذه الابتسامة بدأت تذبل شيئاً فشيئاً حتى اختفت تماما، عندما اكتشف أن المروحة لم تزد على أن حركت هواء الغرفة الساخن والمشبع بالرطوبة.. عاوده الشعور بالاختناق.. وعاد ينفخ بتذمر أشد.. وهل كان المستكشف سيظل مبتسما بعد أن يكتشف أن ما ظنه الجزيرة المنشودة لم تكن سوى إحدى جزر وطنه المأهولة، دخلها من الجهة الخلفية.. كان شعوره بالاختناق يزداد، والهواء المدفوع برياش المروحة يكاد يشوي وجهه.. فكّر في الاغتسال، ولكنه سرعان ما طرد الفكرة؛ إذ كيف يغتسل وهو أصلاً يقطر عرقاً من أعلاه إلى أسفله، ثم إنه يعرف قبلاً أن سخونة ماء الأنابيب في هذا الوقت كافية لتضع بصماتها على بشرته.. لم تبق أمامه إلا فكرة واحدة.. أن يغادر المنزل وليكن ما يكون.. نشف جسمه من العرق.. وأسرع في ارتداء ملابسه قبل أن تعاود سواقي العرق زحفها من جديد.. وكمنْ يهرب من أفعى أو حيوان مفترس انطلق نحو الباب الرئيس للمنزل.. وما إن أخرج رِجْلاً واحدة حتى انتابه شعور بأنه يقف أمام فرن مشتعل.. تعطّل ذهنه عن التفكير.. بقي واقفاً هناك كالمشلول.. رِجل في الخارج وأخرى في الداخل.. وبعد مدة لا يدري إن كانت ثواني أو دقائق أو ساعات.. أحس بدمعة ساخنة تصنع أخدودا على وجنته.. نعم، كانت شديدة السخونة، ولكنها كانت القرينة الوحيدة الدالة على أنه ما زال حيًّا!
د. علي الزبير
28 مايو 2024م