قمة فيلولي ترسم حدود الهاوية
كتب/ خالد اليماني
تمخضت القمة الأميركية – الصينية التي التأمت أول من أمس في مجمع فيلولي التاريخي خارج مدينة سان فرانسيسكو عن توافقات الحد الأدنى، وبعثت برسائل تطمينات فورية للتهدئة بين الخصمين الأكبر في العالم. ولن يتكشف مجمل نتائجها إلا على المديين المتوسط والطويل، حتى يتبين المنحى الذي ستتخذه العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم. وبعد أن انفض الجمع بقيت حقيقة تلوح في أجواء قصر فيلولي المبني على الطراز الجورجي وحدائقه الممتدة لمئات الهكتارات بأسلوب عصر النهضة الإنجليزية، وهي أن أميركا والصين في حاجة إلى بعضهما بعضاً، وأن التنافس لن يتوقف، وربما ازداد اشتعالاً في مقبل الأيام.
لقاء العمل الطويل الذي جمع الرئيس جو بايدن بنظيره الصيني شي جينبينغ وكبار مساعديهما لأربع ساعات، والذي سبق قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، حقق ضمن نتائجه المباشرة عودة الاتصالات العسكرية على مختلف المستويات بين البلدين، وقبول الصين بالعمل على وقف تدفق المكونات الكيماوية والمستخدمة في تصنيع مخدر الفينتانيل، والعودة للمفاوضات الثنائية في مجال المناخ بعد انقطاع دام لعام.
معلوم أن الصين قررت قطع الاتصالات العسكرية رداً على الزيارة التي أجرتها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب السابقة إلى تايوان في أغسطس (آب) من العام الماضي. وتقيم أميركا وزناً استثنائياً لاتصالاتها العسكرية المباشرة مع الصين على مختلف المستويات لتفادي مواجهات غير محسوبة بين البلدين، وتحديداً في بحر الصين الجنوبي، وهي تبني وتعزز تحالفاتها في منطقة شرق آسيا لاحتواء نفوذ الصين المتزايد، فيما تسعى الأخيرة إلى زيادة الضغط على أميركا لإرغامها على الخروج من منطقة تعدها مجالها الحيوي الاستراتيجي.
وبدا جلياً من أجواء القمة والكتابات التي حفلت بها وسائل الإعلام الدولية أنها سعت إلى التهدئة والتوافق للعمل في أجواء من المنافسة المسؤولة، فقد كان الرئيس بايدن أكثر إيجابية في تعليقاته مقارنة بتلك التي أطلقها عقب قمة بالي الإندونيسية في العام الماضي. وفي تعليقه على نتائج اللقاء الذي جمعه بالرئيس الصيني، وانطباعاته الشخصية، قال الرئيس بايدن إنه اتفق مع نظيره الصيني على التواصل الهاتفي المباشر في حال كان لدى أحدهما أية مخاوف، معتبراً ذلك تقدماً مهماً تحقق في اللقاء، ومؤكداً في الوقت ذاته أن أي خطأ في الحسابات من أية جهة يمكن أن يتسبب في مشكلة حقيقية.
وفي معرض وصفه الرئيس الصيني الذي عرفه منذ أكثر من عقد من الزمن حين كانا في موقع نائبي الرئيس، “أعتقد أنني أعرف الرجل، وأعرف طريقة عمله، ولدينا خلافات، ولديه وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظري في شأن كثير من الأشياء، لكنه شخص مستقيم”، مؤكداً أنه لا يقصد وصفه بالجيد أو السيئ، أو غير المبالي، بل المستقيم. وحينما سئل إذا ما كان يثق بالرئيس الصيني، اتخذ رده بالمثل الشائع “أثق، ولكن أتحقق”، مضيفاً في رد آخر بأن شي جينبينغ ديكتاتور.
الإعلام الرسمي الصيني المرافق للقمة وصف العلاقات الثنائية الأميركية – الصينية بأنها “أهم علاقات ثنائية في عالم اليوم”. وأكد الرئيس الصيني مسؤولية البلدين للعمل معاً، على رغم التحديات التي تكتنف علاقتهما، مؤكداً أن “علاقات البلدين منذ أكثر من 50 عاماً لم تكن إبحاراً سلساً، ولكن إدارة الظهر لبعضهما بعضاً لن يكون خياراً، ومن المهم احترام بعضهما بعضاً والتعايش بسلام حتى يكون بمقدورهما السمو فوق الخلافات، فالأرض كبيرة بما يكفي لتتسع لنجاح بلدينا”. واستهجن الرئيس الصيني في لقاء جمعه مع رجال أعمال أميركيين، رؤية أميركا للصين باعتبارها خطراً استراتيجياً. وقال إن بإمكان الصين أن تكون صديقة لأميركا بعيداً من هذه التوصيفات.
وفي الحقيقة كان اللقاء، كما أراد له منظموه من الجانبين، عودة للتواصل على مستوى القمة بعد آخر لقاء عقد بين الرئيسين على هامش اجتماعات مجموعة الـ”20″ في مدينة بالي الإندونيسية في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وما تلاه من تدهور متسارع للعلاقات الثنائية، ومحاولة البلدين عبر زيارات كبار المسؤولين لترميمها والحيلولة دون تدحرجها نحو مزيد من التدهور. وربما يكون أفضل التوصيفات الإعلامية للقمة أنها كانت مرتبطة بتعقيدات الشؤون الداخلية للبلدين، فمن جانبه أراد الرئيس الصيني حلحلة الوضع الاقتصادي الداخلي الصعب الذي يواجهه، فيما أراد الرئيس بايدن إظهار الحفاوة اللازمة مع الإبقاء على لغة الحزم، فعينه على الانتخابات الرئاسية في العام المقبل في ضوء الهجوم الشرس الذي يتعرض له من خصومه الجمهوريين الذين يرون أن اللقاء سيكون ثمنه باهظاً على بايدن، وأن إدارته غير صارمة بما فيه الكفاية مع بكين.
في الواقع، فإن الولايات المتحدة والصين تشكلان قوتين عالميتين في حال صراع محتدم، ومع ذلك فهما تحاولان الآن، وبشكل غير مسبوق، صياغة بروتوكول لتوصيف هذا التنافس الشرس، ورصف أرضية للمصالح والخلافات في توسعهما في العالم، الذي اعتبره الرئيس الصيني مشاعاً لهما، بل ورسم حدوداً لشفير الهاوية الذي بتجاوزه ينفرط عقد التوازن العالمي. إنه عالم مفتوح للتنافس بينهما مع مراعاة إدارة هذا التنافس بشكل مسؤول يحول دون تصادمهما. ومن هنا فإن إعلام الحزب الشيوعي الصيني لم يتوقع أن تشكل القمة نقطة تحول في العلاقات الثنائية، ولكنها ستشكل نموذجاً لإدارة التوتر بين البلدين، فهما يتعلمان التأقلم في مناخ المنافسة الاستراتيجية باعتبارها سنة طبيعية للعلاقات.
ومن هنا فإن قائمة القضايا الخلافية بين البلدين تتسع، ولا مجال هنا لحصرها، ولكن تبقى قضية تايوان في مقدمها، بخاصة مع تصعيد الصين غير المسبوق على رغم عدم تغير الموقف الأميركي تجاه سياسة “الصين الواحدة”، فإن بكين على ما يبدو بدأت بتنفيذ عملية معقدة لإزاحة أميركا من المنطقة، فيما تعمل واشنطن لبناء تحالف قوي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة النفوذ المتنامي للصين. وتنظر الصين إلى التحالف الأميركي مع اليابان، وأستراليا، والهند، وفيتنام، باعتباره تهديداً لأمنها القومي، وهي تؤكد أن أميركا ستفشل في احتواء الصين.
من جهة أخرى، شكل الموقف الأميركي لفرض مزيد من الرقابة على الصادرات التكنولوجية الأميركية إلى الصين، والتي يمكن أن تستخدم لأغراض تطوير الصناعات العسكرية الصينية، نقطة تصعيد ترى فيها الصين محاولة لإعاقة تنميتها، إضافة إلى موقف الصين الداعم لروسيا، والذي يثير حفيظة البيت الأبيض من خلال البيانات المشتركة التي تهاجم الولايات المتحدة، فيما تواصل السياسة الأميركية مقاربتها التقليدية برصد انتهاكات حقوق الإنسان في الصين.
وفي جانب المناخ يتطلع الجانب الأميركي إلى قيام الصين بتنفيذ التزاماتها الواردة في اتفاق باريس للمناخ، فيما يتزايد الاحتجاج على قيام الحكومة الصينية بتعديل قانون ضد التجسس الاقتصادي من زاوية أثره في الاستثمارات الخارجية المباشرة والشركات الأميركية العاملة في الصين والعاملين الأميركيين والأجانب فيها. وتشير الإحصاءات إلى خروج ما قيمته 147 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين خلال العام الماضي، فيما تقلصت الاستثمارات الصينية المباشرة في أميركا من 46 مليار دولار في 2016 إلى 5 مليارات في العام الماضي.
نتائج محدودة لعالم متغير
ويرى مراقبون أن نتائج قمة بايدن – شي لا تخرج عن إطار نيات التهدئة، وأنها صالحة لمدة عام واحد فقط، فالإدارة الأميركية تواجه مصاعب كثيرة، منها الحرب الإسرائيلية في غزة، والحرب الأوكرانية، والتحضير لانتخابات الرئاسية التي تشير استطلاعات الرأي في شأنها إلى احتمالات عودة الرئيس السابق دونالد ترمب. من جانبه يواجه الرئيس الصيني اقتصاداً ضعيفاً ومؤشرات ضعف الاستهلاك الداخلي، وترنح سوق العقارات، وانخفاض الصادرات، وتضاؤل ثقة المستثمرين الأجانب. ومن هنا، فإن الرئيسين الأميركي والصيني سيعملان قدر مستطاعهما لاستغلال نتائج القمة داخلياً لإظهار قدرتهما على تحقيق مزيد من النجاح، وفي سبيل ذلك، فهما في حاجة إلى بعضهما بعضاً.
وربما أختم هذه القراءة السريعة لنتائج “قمة فيلولي” بعرض نتائج الاستفتاء الذي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية وجامعة أكسفورد العريقة على هامش القمة، والذي أكد أن لقاء الرئيسين يأتي في أجواء علاقات دولية أصبحت بحسب الطلب أو أكثر انتقائية، أو كما سماها الاستفتاء à la carte، حيث صار بمقدور الدول “المزج والتوفيق” بين تحالفاتها الجيوسياسية شرقاً وغرباً، وعدم الالتزام الكامل لدولة واحدة بعينها. ويعتقد المشاركون في الاستفتاء من 21 دولة أوروبية وغير أوروبية أن الغرب في طريقه إلى الزوال مع تعرض الديمقراطية الأميركية والاتحاد الأوروبي لخطر الانهيار في غضون السنوات الـ20 المقبلة.