إسماعيل(*)
عدن توداي:
قصة للكاتب / حسين السليماني الحنشي
*الجزء الاول ـ المرض والهجرة*
في قرية صغيرة من قرى ـ تهامة ـ كان إسماعيل يعيش حياته كباقي أفراد القرية ، وكان عمره لايتجاوز الست أو السبع من السنين تقريباً.
كانت الأمراض منتشرة ، ومن بينها مرض (الجذام) فمات منه الكثير من الناس ، فخرجت الناس مهاجرة تاركة ديارها، هاربة من المرض الى بلاد أكثر أمان.
ووجدت نفسي هارب دون علم مني ، من القرية ومعي رجل كبير السن ، كان مهتما بي فقال : أننا سنذهب إلى مدينة أبين ، كان الرجل يعرفها من قبل، ثم قال: هناك سوف تعيش يا أبني .
بعدها وصلنا الى ابين زنجبار العاصمة ، بعد عناء السفر وتحمّل مشتقاته … وفي قرى صغيرة كانت من ضواحي مدينه -زنجبار – ومنها: الكود ، المسيمير ، بئر الشيخ ، وغيرها، كنا نتنقل بينهما …
وبعد مرور ثلاثة سنوات ونحن على هذا الحال .
أخبرني الرجل الكبير ، بأنه مسافر الى تهامة، من أجل توصيل أطفال كانوا معنا ووجدناهم في أبين ولا أعلم بأي مكان وجدناهم ، ولا أعلم ماذا يقربون له بشكل واضح !
سافر ذلك الرجل مع بزوغ الفجر ومعه الأطفال.
قال لي: ساتركهم عند أحوالهم …
وانت ستبقى هنا، حتى أعود، كنت أناديه با أبي. !
وفي الصباح الباكر وادعته وذهب دون رجعة، وعشت انتظره ولكن ذهب عني دون رجعة! فلم أجد من يأخذ بيدي، بعدها عشت حياة الفقراء، بل البؤساء… ومضت علي أيام صعبة…
*الجزء الثاني : العيش مع الحيوانات.*
كنت أهيم لوحدي وأنا طفل ليس له ولياً يتعاهده ويراعيه، فلم أجد السكن والملابس ولاحتى الأكل والشرب ، فكل من يراني يظن أنني من سكان المدينة أو القرى القريبة منها، أو أنني مختل عقليا أتجوّل في الشوارع والأسواق ، فوصل بي الأمر، الأكل مع الحيوانات ، من القطط والكلاب ، من الزبالة وبقية الأطعمة من المطاعم والمنازل.
حتى أنني أتذكر تلك الروائح الكريهة من المأكولات…
وفي بعض الأحيان اشترك مع الحيوانات فتذهب ؛ لأنها لاتطيق تلك الأطعمة الملوثة، لقوة الرائحة المنبعثة منها، وتعفنها بشكل كبير …
بعدها صابني انتفاخ ببطني؛ من تلك المأكولات القذرة…
وأنا على تلك الحالة هزيل مريض بطني أمامي منتفخة ، وجدني رجل فاضل على جنبات الطريق ثم قال : هل لك من أهل ؟
قلت: لا !
فعلم أنني وحيد عندما أخبرته، فقد كان يبحث عن من يعمل معه ويساعده، حيث يملك أغنام وابل كثيرة، وكان يريد الاستنفاع بي!
حملني معه، على ظهر (بعيره) ، وشدني إليه على ظهر البعير. واتجهنا نحو الصحراء حيث يسكن بها.
وعند وصولنا إلى مكان إقامته، وضعني على الأرض تحت شجرة كانت هي بيت عائلته (حياة البداوة)وكانت أبله واغنامه وأسرته متواجدة بنفس المكان…
مكثت عنده في هذا المكان حوالي أربعة أو خمسة أيام وهو يعالجني بحليب الإبل وبولها وكان يخلط البول من الإبل ، دون شعوري به ،
كان يوهمني بأن البول ـ ماء ـ وبعد أن شفيت من المرض أخبرني بأن العلاج الذي كنت استخدمه مخلوط الحليب ببول الإبل، وقبل الشفاء صابني إسهال شديد من العلاج ، فخرج من بطني مع الإسهال ديدان كبيرة تجاوز طولها العشرة سنتي تقريباً ،ثم قال لي: اخلد إلى الراحة حتى تكون حالتك أفضل وأكمل فترة ُ النقاهة ـ وانا بين أولاده وحيواناته الكثيرة كنت سعيد بشكل لايتصور….
*الجزء الثالث: الرعي*
بعد الشفاء من الأمراض أصبحت نشيط ، وكنت أساعد الرجل الفاضل ببعض الأعمال دون إن يأمرني بها!
أعجب بي بشكل كبير .
قال لي الرجل الفاضل: ممكن تستقر معي ، فأنا أبوك من اليوم، وأنت أبني، تعمل معي برعي الأغنام، كاولادي.
قمت بوظيفتي الجديدة، على أكمل وجه بعدما استلمتها.
ثم انتقلت إلى رعي الإبل((ذوّاذ))كما يطلق عليها سكان محافظة ـ أبين ـ وكانت فترة العمل التي قضيتها عند ذلك الرجل الفاضل إلى أن قامت حركات التحرر الوطني في العالم العربي ، وتاثر بها الوطن الذي أعيش فيه ، كانت بريطانيا تحتل المنطقة (الجنوب)، فذهب أبناء هذا الرجل الفاضل البدوي إلى تلك الحركات الوطنية ، وبناته تزوجن ولم يبقى معه أحد سواي. ثم قال لي: إن اغنامه كثيرة وإبله أيضاً كثيرة ، وإن العمال الذين كانوا معه ذهبوا وحتى أولاده وبناته، فقال: أحيل عملك إلى رعي الأغنام من الإبل ، بعد أن باع منها الكثير، خوفاً من إتهامه بأنه ـ من الطبقات البرجوازية أو غيرها ـ وكان النظام بتلك المنطقة يحارب تلك الطبقات…
كنت كأحد أبناءه اتعاطى من الأجرة، السكن معه تحت الأشجار سكن ـ البدو ـ والأكل والشرب ولبّس، مثل عائلته ولم يكن شئ محدد لي من الأجرة. وكنت في حمايته، بعد ذلك عملت برعي الأغنام ثلاث سنوات ، وسئمت حياة العيش بحياة البداوة، بعد أن كبر سنّي وبلغت رشدي.
في ذلك الوقت حتى الرجل الطيب الذي أعمل معه بدأ بالانتقال نحو المدينة ، حيث أصبح أبناءه من كبار رجال الدولة (السلطنة) ، لكن كانت تلك المناصب التي حصل عليها أولاده ، كفيلة بالقضاء عليهم بالاعدام من قبل الحكام الجدد ! وبعد رحلة البحث عن الأمان والخوف من القادم، أعطاني مبلغ (ألف شلن) كان هذا المبلغ بالنسبة لي مبلغ مالي كبير جداً في ذلك الوقت ، وكان ذلك الوقت قد قامت الثورة الجنوبية ، وانضم هذا الرجل مع أبنائه إلى الثورة.
وبعد قيام الثورة أتهم هذا الرجل وأبنائه وكبار رجال القبائل بالتآمر على الثورة!
وهرب الجميع إلى خارج الوطن….
*الجزء الرابع: الرجل المميز…*
رجعت من حياة من الصحراء إلى ضواحي مدينة ـ أبين زنجبار ـ من جديد وبنيت منزل في قرية بئر الشيخ، كان أغلب سكانها من أمثالي مساكين وفقراء يعملون في زراعة المحاصيل الزراعية.
كان بيتي مصنوع من الخشب ، وجعلت حوله زرائب كبيرة ، للأغنام التي ملكتها من الرجل الفاضل ، فبعت منها واشتريت بقر فأصبحت ممن يملكون الغنم والبقر والحمير، وبعير أحمل عليه ما أحتاجه ، وكنت رجل مميز إلى حد كبير في القرية وحالتي تحسنت أكثر بكثير.
فكان معي ـ بعير ـ كنت استخدمه أيضا للمواصلات الخاصة بي.
بعد مرور الوقت شاع ذكري بين القرى القريبة بأني مستور الحال ، فاجأني رجال معروفين يعملون بالتجارة وعرضوا علي العمل معهم ، وقالوا: بيع ما لديك فأنت تتعبت منها كثير ، ومعك غنم وبقر وحمير ، لابد أن تتخلص منها ، وتكون لديك مبالغ مالية تخصصها للتجارة ، أحسن من هذه الحالة التي أنت عليها.
فاخذني الطمع ، وصدقتهم في هذا ، فقمت ببيع كل مالدي . حينما اقنعوني بأن حالتي ستتغير والدخل بيكون كبير معي والعمل أفضل.
كانت التجارة التي يعملون بها هي، بيع السلاح.
فقلت: في نفسي ، لازلت شاب وقوي، ولم تكون عندك مسؤولية البيت ، فأنت يا (إسماعيل) لم تتزوج بعد ، أحسن أعمل في التجارة ، وإن شاء الله حينما يفتح عليك الله تتزوج وتبني لك بيت أفضل ويكون معك رزق وفير، وتكون حالتك مستقرة مثل التجار الكبار !
وحينها وافقت على العمل بالتجارة…
*الجزء الخامس ، السفر للتجارة*
تجهزنا صباحا معنا زادنا وانطلقنا من أبين ـ زنجبار ـ إلى (بيحان) حتى نأتي بالأسلحة من هناك، ونبيعها في أبين، فذهبنا نحو منطقة وعرة جدآ ، وكان بعض أفراد تلك المنطقة يقطعون الطريق نتيجة للواقع التي تعيشه، كثير من المناطق من العوز والحاجة ، وللاسف البعض عمل بهذا العمل (قطاع الطرق) وكان تقريباً أغلب المناطق في ذلك الوقت فقيره.
وعندما كنا في تلك المنطقة ونحن في طريقنا وإذ بقطاع الطرق أمامنا وقد تم القبض على أحد الأصدقاء ، وأخذوا ما لديه حتى أنهم أخذوا الحزام الذي يربطه على خاصرته ، أما أنا فقد كنت حذر لدرجة كبيرة وكنت أمشي خلفهم لمسافة قصيرة وجعلت من نفسي شخص ضعيف مهزوز فقير لايملك شئ ؛ لأني أعلم بذلك حيث أخبرونا كثير من الناس ، فجلست حين رأيتهم يقومون بالقبض عليهم خلف صخرة أوهمهم أنني اقضي حاجتي، لكن قبل قضاء الحاجة، حفرت حفرة ووضعت كل ما معي من (نقود) في تلك الحفرة وتبرزت فوقها بعد دفنها .
حتى لايظنون بي شئ ، وأتيت إلى قطاع الطريق فقبضوا علي وقاموا بتفتيشي ولم يجدوا معي سواء حزامي فاخذوه .
وقام اخر باعطاني صفعة على وجهي بيده، حاولت ابتعد عنه قليلاً ، فبكيت حتى يذهبون عنا ، بعدها ذهب الجميع عنا وتركونا بحالة مزرية ، وكانت العبرات البعض منا تشحرج في صدورهم، أخذوا كل ما لدينا من أموال …
قالوا زملائي: أين نقودك يا إسماعيل ؟
فلم يجدوا معك شئ ، اين هي؟!
فذهبت مسرعا إلى ذلك المكان الذي وضعتها به، وأخرجتها.
وواصلنا رحلتنا إلى (بيحان).
*الجزء السادس ، خاب الأمل*
بينما كنا في الطريق إلى مدينة (بيحان) ونتيجة لسفرنا الشاق أصيب بعضنا بأمراض مختلفة، وكان خوفي من مرض الجرب خوفاً شديد…
كانت حالتنا النفسية مرهقة جداً ، نتيجة للجوع ، وانفقت كل ما املك من أموال، في طريقنا الى (بيحان) وحين وصولنا لم يبقى معي غير شيء يسير لايصلح للتجارة التي اتيت من أجلها.
فشتد علينا الفقر أكثر وحياة البؤساء، فلا نملك سواء قوانا العضلية للعمل في أي شيء ، فعملنا مع رجل من رجال (بيحان) وكان رجل فاضل ، عملنا معه في زراعة بساتينه وعملنا معه في بناء منزله ، وحين انتهى العمل ، ذهبنا إليه كي يصرف أجورنا مقابل الأعمال التي قدمناها له.
رحب بنا واسكنا معه الليلة التي وصلنا إليه فيها.
قال الرجل الذي عملنا معه: انتم ذاهبون الى أبين ، وامامكم قطاع الطرق ، واني أخاف أن ياخذوها عليكم…
لكن معي صديق في أبين معه (دكان) وهو من سيصرفها لكم، ولست أنا!
وغدا سوف ارسلكم مع هذه السيارة الى أبين ، وهو من يخبر صاحب (الدكان) بأن يعطيكم كلا ماهو مقابل أسمه من نقوده.
وافقنا على هذا!
ومع بزوغ الفجر ركبنا السيارة ووادعنا ذلك الرجل الفاضل ، وانطلقنا في سفرنا الى أبين من جديد…
ووصلنا في منتصف الليل ولم نجد صاحب (الدكان)…
فقال صاحب السيارة: انا الآن مسافر إلى (عدن) وغدا بيننا القاء هنا.
مكثنا بجانب (الدكان) حتى الصباح ، فجاء صاحب (الدكان) وفتح أبوابه ، وبعد الظهر ، جاء صاحب السيارة ونحن لم نبرح المكان!
ثم نزل صاحب السيارة ، ودخل (الدكان) ودخلنا معه ، فقال: اني مستعجل ومسافر إلى (ابيحان) وهذه الرسالة لك من فلان بن فلان….
أعطي كل واحد منهم ماهو أمام إسمه من النقود .
فقام صاحب (الدكان) ووادع صاحب السيارة ، وكان يقول له: سلم على صاحبنا ويعني بها الرجل الفاضل ( ببيحان) ثم عاد إلى (الدكان) واعطاء كل واحد منا ماله من نقود…
*الجزء السابع، مواجهة التحديات*
كان أول تحدي لي أن ما أملكه من النقود قليل، أي لايكفي ببناء حياة إنسان ومضيت يميناً وشمالاً أبحث عن عمل وصدفة صادفت رحل من رجال القبائل ، فقال : هل تستطيع العمل أو تبحث عن العمل؟
قلت: نعم، انا أبحث عن عمل!
فحملني معه على بعير كان معه إلى منطقة اسمها(الوضيع) فجلست بها حين وجدت العمل .
وكنت أغلب عملي بفلاحة الأرض وبعض الأعمال في الجبال استخرج الصخور المعدة للبناء ، وانا على هذا الحال سنين طويلة تجاوزت الثمان من السنين.
وخلال هذا العمر كانت لي علاقات مع أغلب الناس فيها واكثرهم في منطقة(السواد التابعة للوضيع) وعاشرت أهلها معاشرة أخوية بشكل لا أتصوره، وكأني من سكانها!
حيث قام البعض منهم وبمساعدتي ، الرجال والنساء ببناء منزل لي وهو عبارة عن غرفة من الصخور ، وقام آخرون بمبادرة اخرى، فزوجوني من إمرأة من أسرة كانت محتاجة وهي يتيمه مثلي مقطوع من شجرة ، فجمعوا بيننا تحت سقف تلك الغرفة!.
ومكثت على هذا الحال فترة تتجاوز الخمس من السنين ،بعدها رحلت الى أبين من جديد.
*الجزء الثامن ـ الإستقرار الاخير*
سكنت حيث كانت البداية بقرية (بئر الشيخ) بضواحي مدينة (زنجبار، عاصمة أبين)، كما زالت أبين باقية ملاذ المستضعفين إلى اليوم، وأغلبهم من تهامة!
وعشت بها حياة لابأس بها، واستقرت حياتي مع زوجتي وأولادي الثمانية سته ذكور وبنتان.
وكبر سّني ولم أعد القدرة علي العمل، كما كنت سابقا، وقل نظري وثقلت قدماي إلى الأرض ، وقصرت خطاي التي كانت تمر بجميع الخطوط المترامية الأطراف…
فبقيت وحيدا يتيماً كما كنت صغيرا ؛ حينما لم أجد زملائي الذي بهم كنت أعشق الحياة؛ فزادني ذلك حزنا عليهم !
كانوا بالنسبة لي باب فرج أمضي إليه كلما طلبت الحاجة، وحينما تضيق بي الحياة ، أجد فيهم فسحة مما أنا فيه…
واليوم الحياة أصبحت ليست لي، وأجد نفسي مودعا لها !
واليوم أجلس بزاوية لنفسي وانظر للكثير وهم يتسابقون إلى تغيير ما عاشت عليه الآباء !
واليوم أصبحت البلاد تعيش ماساة في كثير من مناطقها…
وللاسف لم تنتهي المعاناة ، من الأمراض ولم تنتهي من أهل تهامة الهجرة من أرضهم ولم ينتهي قطاع الطرق ولم تنتهي تجارة السلاح ولم ينتهي رفقاء السوء ولم ينتهي الطيبون أيضاً والرجال الأفاضل، وما بقي حبا لهذه الحياة إلا بهم!
كانت تزينهم روح الإيمان والعمل الصالح ، والعادات والتقاليد الاجتماعية الجميلة من نخوة وشهامة…
واليوم انظر الى البلاد وقد قامت الثورات بها، لم تتحسن الحياة فيها وقد هربت من الشمال اليمني إلى الجنوب… لكني أظن إن الثورات كانت طريق منحدر يعود بك من حيث بديت، وكأنها متاهات لاتستطيع الخروج منها أو تتمنى العودة إلى ماكنت عليه من القهر والاستبعاد والاستبدات!!!
فلم اعرف من هو عدو الوطن…
وانا جالس انظر للمارة، والسرعة في في كل شي!
لم نعرف كلمة إسمها (سفري)، كنا نجلس فترات طويلة عندما نلتقي على الطرقات في الأسواق ، نسأل عن الأحوال…
واليوم تتمنى كلمة، من البعض ويكلمك وهو يسير أو يحدثك دون أن يسلم عليك…
ففضلت البقاء من حيث كانت البداية ، وعشت من جديد حياة البؤساء والفقر الشديد !
وابتعد عن حياتي العيش الرغيد والحياة المستقرة؛ فكانت حياة متقلبة، ورحلات صعبة ، على مراحل حياتي!
وأنا إسماعيل أحمد سعيد : صوره لكل أفراد الوطن وما زالت المعاناة…
__________________
(*) ـ هذه القصة أخذتها من –
إسماعيل أحمد سعيد –
بنفسه رحمه الله.
عام //٢٠٠٣م.
حسين سالم السليماني الحنشي.