عليل يتداوي بعلته ويبكي حال وطنه. (1).. كتب /د. علي غالب الصبيحي

عدن توداي
د. علي غالب الصبيحي
مسكين أنا ذاك الطالب الذي الذي رسم لنفسه ووطنه صورة فوق النجوم وهو يردد في طابور كل صباح في مدرسته الابتدائية:
لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية
وتنفيذ الخطة الخمسية
وتحقيق الوحدة اليمنية
استيقظت من تلافيف ذاكرتي هذه الأحلام التي كنا نحلم أن نبني عليها وطنا نراه وقد واكب الأوطان، والطائرة قد أقلعت بنا عن مطار (قرية عدن المنكوبة) واعتلت البحر وشقت بنا السماء وبدأ مسؤلو الطائرة -حفظهم الله وحفظنا- يبثون لنا تعليمات الرحلة ويعرفوننا بمخارج الطائرة ويرشدوننا بنفخ التيوب أو البالونة أو كما نسميها في الصبيحة (النفيطة) في حالة حدوث مكروه فضحكت من أعماقي ضحكة لاتقل عن مرارات التعب التي تعتصر جسدي وروحي وكليتي الاثنتين التي اتخذت منها الحصوات وطنا لها كما اتخذ البؤس من اليمن وطنا له دون سائر بلاد العالمين.
اعتلت الطائرة في السماء وكان البحر أسفلنا وركام السحاب كهضاب وأشعاب الجبال وتبابها، فأحسست أن عللا روحية تتخفف منها مهجتي وجاء وقت الصبوح او الإفطار وقد تزود المسكين باليسير واقتربت المضيفة -حفظها الله – وخشيت بعد ان سمعت في المطار من أحد الساخرين أن مشروب الهداف الطفولي وكيك البوب سيكون إفطارا لكم، لكن ( اليمنية) خيبت ظن صاحبي وكانت (الدقة والبازلا وحبتين بان عدني و…و….) قولوا ماشاء الله تبارك الله.
شقت الطائرة السماء وتمتعت روحي وأحسست أني أتنفس قليلا نفسا آخر بعد أن أمضيت جل عمري في مطاردة الضمة والفتحة والخفض والسكون والمتعة والبلاغة والإيحاء الذي كنت استشفه من روائع الأدب ولم استشف أن ما امضيت فيه عمري غدا بلاجدوى
وأن حروف العلة والصرف قد صرفوا عمري وأورثوني العلل.
أقلعنا من مطار القرية المنكوبة (عدن) عند التاسعة صباحا تقريباومع حلول الواحدة بتوقيت عدن، الثالثة والنصف بتوقيت الهند
اقتربت الطائرة من سماء المدينة الساحرة (بومباي) بأبراجها وزحمة مساكنها وقلاعها وترتيبها المذهل وأنهارها وبحيراتها وأنا ألتقط الصور من السماء من ثقب النافذة وأحمد الله ان اقترب الوصول ولم نفكر بنفخ التيوب أو الانطلاق إلى أبواب الطائرة وأحسست من منظر بومباي المذهل ومطارها العظيم أننا ليس لنا صلة بهذا العالم إلا بالتخريب والجهل والعصبية وكل خلق مذموم.
بكى قلبي وبكت جوارحي وأنا ارى الهند العظيمة التي كانت مستعمرة بريطانية شأنها شأن قرية عدن حاليا.
بكى إحساسي كطفل أحب وطنه في طفولته وردد مع أقرانه نشيد عبدالله هادي سبيت:
عليك مني السلام يا أرض أجدادي.
ففيك طاب المقام وطاب إنشادي
عشقت فيك السمر ونفحة الكاذي
بكيت لأن الكاذي الذي حلمنا به فاح وتبخر بعواصف المارقين وباعة الأوطان والطائشين.
بكيت لأن الكاذي الذي تغنى به سبيت لم نجده وأن كاذي هذا (الطفل ماضيا دكتور اللغة والنقد والأدب حاليا) الذي بقي بالقرب من منزله المستأجرة في خوره المكسرة هي بالوعة الصرف الصحي المركزية ، حيث يتضوع عبير روائحها صباح مساء أما المياه ففي خبر كان، وأما كهرباء عدن فتعودت على قلة الحياء والخروج وعدم العودة إلا نادرا، على عكس كهرباء المدن الهندية العظيمة التي أدبها أصحابها ولم يسمحوا لها بالخروج حيث شاءت.
تناقضت مشاعري وتداخلت بين عليل يتداوى بعلته ناسيا آلام بلده، وبين هياج للمشاعر والتحسر والأسى على وطن رجع للورى وكان مستعمرة بريطانية شأنه شأن بومباي المذهلة المبهرة التي كانت مستعمرة بريطانية وهي مدينة – ربما- يقترب مطارها في سعته من مديريات عدن مساحة مع تطور تقني مذهل لبومباي ومطارها وسكانها الذي كما قيل يزيد على خمسين مليون إنسان (وأقصد بومباي فقط) ، أما سكان الهند فهم مليار وخمسمائة مليون، والفرق بين مدنها كالفرق بين عدة دول في حركة صاخبة ومواكبة لطفرة مذهلة في كل مجالات الحياة، وعلى هذا البون الشاسع والمساحة المترامية الأطراف يبقى كل شيء مضبوط، وكل فرد يدخل الهند أو يعيش فيها فهو تحت المراقبة. وأما نحن -فلربما- نصرف بطائق شخصية لكل الداخلين إلى اليمن وعدن، يقيمون فيها في الشوارع والحدائق وماملحمة الأفارقة الأحباش بينهم البين في عدن مؤخرا عنكم ببعيد.
من االعجائب انك تمشي هنا متوازنا هادئا مطمئنا لاترى عراك للسائقين ولامضرابة ولاسب ، وقف في مكانك إذا أردت الانتقال من مكان إلى آخر وبضغطة بسيطة على تلفونك المراقب بدقة ستأتيك التاكس إلى حيث شئت بالخارطة، وأما صوامل وأعصية سيارات الأجرة المنتشرة في أوطاننا المحتضرة فلاوجود لها هنا ولايوجد وقت للتشاجر أو النزاع.
هواجس وأفكار وعجائب لا أستطيع الإلمام بها في هذا الحيز الضيق وفي هذا العالم الواسع الذي تقدر فيه المسافة -حسب العارفين- بين نيودلهي وبومباي ضعفي المسافة بين عدن المنكوبة والرياض.
هذه شذرات مغبون من مغبوني بلاد العرب في المستعمرة البريطانية (عدن) قدم إلى بلد العجائب والتنوع للتداوي وهاهو يتدواي بعلته ،ويعدكم بأن للحديث بقية إن لم تعيقه تدخلات الأطباء ولكم السلام.